~~
أحكام الجنائز 3: (أحكام التعزية)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد :
فيقول الله سبحانه وتعالى: ((وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ))، وقال تعالى في وصف أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)).
التعزية : هي التصبير على ما أصاب من مكروه، وهي مشروعة وفيها أجر وفضل، فقد روى عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة) خرجه ابن ماجه وغيره وحسنه الألباني. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عزّى أخاه المؤمن في مصيبة كساه الله حُلة خضراء، يُحْبَرُ بها يوم القيامة، قيل: يا رسول الله ما يُحبرُ؟ قال: يغبط) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد وحسنه العلامة الألباني.
وأما صفة التعزية وألفاظها، فإن المعزي يقوم بتعزية المصاب بما يسليه ويصبره، ويحمله على الرضى والصبر واحتساب المصيبة عند الله عز وجل، والثقة به سبحانه، ويكون ذلك بما تيسر من الترغيب في الأجر والثواب، أو بكلام يخفف المصيبة ويُذهب الحزن.
ومما ورد في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قاله لابنته حين كان ولدها يغرغر يوشك أن يموت، فعزاها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب) خرجه الإمام مسلم.
ويحسن أن يقول لمن فقد ولدا: ما رواه معاوية بن قرة عن أبيه قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير، يأتيه من خلف ظهره فيُقعده بين يديه، فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلْقة لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي لا أرى فلانا؟ قالوا: يا رسول الله، بُنيَّه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بُنيِّهُ؟ فأخبره أنه هلك، فعزَّاه عليه ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا فلان، أيُّما كان أحبَّ إليك، أن تمتَّع به عُمرك؟ أو لا تأتي غدا إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتح لك؟ قال: يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحبُّ إليَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذاك لك) خرجه الإمام النسائي وصححه الألباني.
ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: ما قاله حينما دخل على أم سلمة رضي الله عنها عقب موت أبي سلمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه) خرجه الإمام مسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما عزى عبدالله بن جعفر في أبيه: (اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبدالله في صفقة يمينه) قالها ثلاث مرات. خرجه الإمام أحمد وصححه الحاكم.
ومما يبرِّد حرارة المصيبة عند التعزية في الأحباب على وجه العموم، سواء كان الميت ولدا أو أبا أو أما أو زوجا، أو حبيبا مصافيا وصديقا مخلصا، ما ورد في الحديث أن الله جل وعلا يقول: (ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) خرجه الإمام البخاري.
ولو قال عند التعزية: أعظم الله أجرك، وأحسن عزائك، وغفر لميتك، فلا بأس بذلك.
ثم اعلم أن التعزية لا تحد بثلاثة أيام، بل متى رأى الفائدة في التعزية أتى بها، فقد عزى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام، كما في حديث عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما، فما دامت حرارة المصيبة قائمة فلا بأس بالتعزية ولو بعد ثلاث، قال العلامة ابن باز: "العزاء ليس له أيام محدودة، بل يشرع من حين خروج الروح، قبل الصلاة على الميت وبعدها، وقبل الدفن وبعده، وليس لغايته حد، سواء كان ذلك ليلاً أو نهارا، وسواء كان ذلك في البيت أو في الطريق أو في المسجد أو في المقبرة، أو في غير ذلك من الأماكن" وقال الشيخ ابن عثيمين غفر الله له: "وقت التعزية من حين يموت الميت أو تحصل المصيبة، إذا كانت التعزية بغير الموت، إلى أن تُنسى المصيبة وتزولَ عن نفس المصاب؛ لأن المقصود بالتعزية تقويةُ المصاب على تحمّل هذه المصيبة واحتساب الأجر".
ومن البدع والمنكرات في العزاء: اجتماع أهل الميت خارج المنزل في أماكن واسعة، سواء كانت في الخيام الكبيرة، أو بفرش الساحات الخالية أمام المنزل، وإنارتها استعدادا لاستقبال المعزين، وإحضار من يقرأ القرآن، وكذلك الاجتماع في منزل الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن، ودعوة الناس لحضور الطعام المقدم، قال جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه: "كنا نَعُدُّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة" خرجه الإمام أحمد وابن ماجه. قال العلامة ابن باز: "الاجتماع في بيت الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن بدعة، وإنما يؤتى أهل الميت للتعزية والدعاء والترحم على ميتهم، أما أن يجتمعوا لإقامة مأتم بقراءة خاصة، أو أدعية خاصة أو غير ذلك، لو كان هذا خيرا لسبقنا إليه سلفنا الصالح، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما فعله، وكذلك الصحابة من بعده لم يفعلوا شيئا من ذلك، فقد مات الصديق أبوبكر رضي الله عنه وما جعلوا له مأتما، وقتل عمر رضي الله عنه وما جعلوا له مأتما، ولا جمعوا الناس ليقرأوا القرآن".
والسنة أن يصنع أقرباء أهل الميت أو جيرانهم طعاما يرسلونه إليهم، لحديث عبدالله بن جعفر رضي الله عنه قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم ما يشغلهم) رواه أبو داود وغيره.
أما بعد، فلقد جاءت هذه الشريعة المباركة بالإحسان إلى المسلم حيا وميتا، ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ))، (والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا). ومما ورد في السنة من الإحسان إلى المسلم عند خروج روحه ومفارقة الدنيا، من ذلك:
أولا: أنه يشرع تلقينه إذا كان في حالة النزع، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) خرجه الإمام مسلم.
ثانيا: لا يقول عنده إلا خيرا، لما روت أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا، فإن الملائكة يؤمّنون على ما تقولون، قالت أم سلمة: فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أبا –تعين: زوجها- قد مات، فقال صلى الله عليه وسلم: (قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني منه عقبى حسنة، قالت: فقلت فأعقبني الله من هو خير لي منه، محمدا صلى الله عليه وسلم) خرجه الإمام مسلم.
ثالثا: في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البيت الحرام: (قبلتكم أحياء وأمواتا). وقد سئل العلامة ابن باز: هل يشرع توجيه المحتضر إلى القبلة؟ فأجاب غفر الله له بقوله: "نعم، يستحب ذلك عند أهل العلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا)"، وقال في كيفية توجيه المحتضر إلى القبلة: "يُجعل على جنبه الأيمن، ويوجه إلى القبلة كما يوضع في اللحد".
رابعا: إذا خرجت روحه وأغمض عينيه وقال خيرا، لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قُبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله فقال صلى الله عليه وسلم: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه) خرجه الإمام مسلم.
خامسا: يغطى بعد ذلك بثوب يستر جميع بدنه، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (((سُجِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات بثوب حِبِرةٍ).
سادسا: لا يغطي رأس المحرم ولا وجهه إذا مات، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الرجل الذي وقصته راحلته وهو محرم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوبيه، ولا تخمِّروا رأسه ولا وجهه، فإنه يُبعث يوم القيامة ملبيا).
سابعا: يُعَجَّل بتجهيزه وإقامة حقوقه من غسل وتكفين وصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة)، ويبادر بقضاء دينه بعد موته من ماله، فإن لم يكن له مال وتطوع به بعض الحاضرين فلا بأس، لقوله صلى الله عليه وسلم: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين) خرجه الإمام مسلم.
ومن ذلك: أن تنفذ وصيته في الثلث فأقل.
ومن ذلك: أنه يجوز لمن حضر الميت كشف وجهه وتقبيله والبكاء عليه بدمع العين، لحديث جابر رضي الله عنه قال: (لما أصيب أبي يوم أحد فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعلوا ينهونني ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تبكيه أو لا تبكيه، مازالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتى رفعتموه) خرجاه في الصحيحين. وقالت عائشة رضي الله عنها في حادثة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: (أقبل أبوبكر حتى دخل فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله بين عينيه ثم بكى فقال: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة الأولى التي كتبت عليك فقد متها) خرجه الإمام البخاري. وقالت عائشة رضي الله عنها أيضا: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قَبَّل عثمان بن مظعون وهو ميِّتٌ، وهو يبكي عليه الصلاة والسلام، فكأني أنظر إلى دموعه تسيل على خدَّيه) رواه الترمذي وابن ماجه. قال أنس رضي الله عنه في قصة وفاة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم، فقبّله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فَجَعَلْت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا ابن عوف إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى، فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) متفق عليه.
ويشرع لأهل الميت الصبر والاسترجاع بأن يقولوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقول ربنا سبحانه وتعالى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) .
