أحكام الحج

~~
أحكام الحج

 


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد  أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) . أما بعد :


فإن الحج إلى بيت الله الحرام واجب، بل هو أحد أركان الإسلام الخمسة لقوله تعالى: ((وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ))، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وايتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، وروى سعيد في سننه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جِدَة –أي: سعة من المال- ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين".


ويجب على من لم يحج وهو يستطيع الحج أن يبادر إليه، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعجلوا إلى الحج –يعني: الفريضة-، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له) رواه الإمام أحمد، ولأن أداء الحج واجب على الفور في حق من استطاع السبيل إليه، لظاهر قول الله جل وعلا: ((وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)).


وتجب العمرة أيضا لقوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان) أخرجه ابن خزيمة والدارقطني من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الدارقطني: "هذا إسناد ثابت صحيح".


ولا يجب الحج والعمرة في العمر إلا مرة واحدة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع)؛ لكن يسن الإكثار من الحج والعمرة تطوعا، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).


وإذا عزم المسلم على السفر للحج أو العمرة، استُحب له أن يوصي أهله وأقاربه بتقوى الله تعالى، وينبغي له أن يكتب ما له وما عليه من الدين، ويشهد على ذلك، ويجب عليه المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب، وإن كان عنده للناس مظالم من نفْس أو مال أو عرض، ردها إليهم أو تحلل منها قبل سفره، وينبغي له أن ينتخب لحجه وعمرته نفقة طيبة من مال حلال، لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا). وينبغي للحاج الاستغناء عما في أيدي الناس والتعفف عن سؤالهم، ويجب عليه أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله والدار الآخرة، والتقرب إلى الله بما يرضيه من الأقوال والأعمال في تلك المواضع الشريفة، وليحذر من أن يقصد بحجه الدنيا وحطامها، أو الرياء والسمعة والمفاخرة بذلك، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).


وينبغي له أن يصحب في سفره الأخيار أهل الطاعة والفقه في الدين، وليحذر من صحبة السفهاء والفساق، وينبغي له أن يتعلم ما يشرع له في حجه وعمرته ويتفقه في ذلك، ويسأل عما أشكل عليه.


فإذا ركب الدابة أو السيارة أو الطائرة أو غيرها من المركوبات، استحب له أن يسمي الله ويحمده، ثم يكبر ثلاثا ويقول: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل) أخرجه الإمام مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.


ويكثر في سفره من الذكر والاستغفار ودعاء الله والتضرع إليه، وتلاوة القرآن وتدبر معانيه، ويحافظ على الصلوات في جماعة، ويحفظ لسانه من كثرة القيل والقال، والخوض فيما لا يعنيه، والإفراط في المزاح، ويصون لسانه أيضا من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بالمسلمين، وينبغي له بذل البر في أصحابه، وكف أذاه عنهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة على حسب الطاقة.


فإذا وصل إلى الميقات استحب له أن يغتسل ويتطيب، وكذلك المرأة إذا وصلت إلى الميقات وهي حائض أو نفساء، تغتسل وتحرم وتفعل ما يفعله الحاج، لكنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، ويستحب لمن أراد الإحرام أن يتعاهد شاربه وأظفاره وعانته وإبطيه، فيأخذ ما تدعو الحاجة إلى أخذه، لئلا يحتاج إلى أخذ ذلك بعد الإحرام وهو محرم عليه، وأما اللحية فيحرم حلقها أو أخذ شيء منها في جميع الأوقات، بل يجب إعفاؤها لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خالفوا المشركين، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب) .


ثم يلبس الذكر إزارا ورداء، ويستحب أن يكونا أبيضين نظيفين، ويستحب أن يحرم في نعلين، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين) أخرجه الإمام أحمد. وأما المرأة فلها أن تحرم فيما شاءت من أسود أو أخضر أو غيرهما، مع الحذر من السفور والتشبه بالرجال في لباسهم، وأما تخصيص بعض العامة إحرام المرأة في الأخضر أو الأسود دون غيرهما فلا أصل له، ثم بعد الفراغ من الغسل والتنظيف ولبس ثياب الإحرام، ينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريد من حج أو عمرة، ويشرع له التلفظ بما نوى، فإن كانت نيته العمرة قال: لبيك عمرة أو اللهم لبيك عمرة، وإن كانت نيته الحج قال: لبيك حجا أو اللهم لبيك حجا، والأفضل أن يكون التلفظ بذلك بعد استوائه على مركوبه من دابة أو سيارة أو غيرهما، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أهلّ بعدما استوى على راحلته وانبعثت به من الميقات للسير، هذا هو الأصح من أقوال أهل العلم، ولا يشرع التلفظ بما نوى إلا في الإحرام خاصة، لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشرع له أن يقول عند الصلاة: نويت أن أصلي كذا وكذا، ولا أن يقول عند الطواف: نويت أن أطوف كذا، بل التلفظ بذلك من البدع المحدثة، والجهر بذلك أقبح وأشد إثما، ولو كان التلفظ بالنية مشروعا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، لبينه للأمة بفعله أو قوله، ولسبق إليه السلف الصالح، فلما لم ينقل ذلك عنه صلى الله عليه وسلم ولا عنهم علم أنه بدعة.


والمواقيت المكانية خمسة وهي على النحو الآتي:


الأول : ميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة، وهو المسمى عند الناس اليوم بأبيار علي.


الثاني: الجحفة وهو ميقات أهل الشام، وهي قرية خراب تلي رابغ، والناس اليوم يحرمون من رابغ، ومن أحرم من رابغ فقد أحرم من الميقات؛ لأنها قبل الميقات بيسير.


الثالث: قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد، وهو المسمى اليوم بالسيل.


الرابع: يلملم وهو ميقات أهل اليمن.


الخامس: ذات عرق وهي ميقات أهل العراق.


والواجب على من مر على هذه المواقيت أن يحرم منها إذا كان يريد حجا أو عمرة، سواء كان مروره عليها من طريق الأرض أو من طريق الجو؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم، لما وقّت هذه المواقيت، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة.


والمشروع لمريد الحج والعمرة إذا توجه إلى مكة من طريق الجو أن يتأهب لذلك بالغسل ونحوه قبل ركوب الطائرة، فإذا دنا من الميقات لبس إزاره ورداءه ثم أحرم، وإن لبس إزاره ورداءه قبل الركوب أو قبل الدنو من الميقات فلا بأس، ولكن لا ينوي الدخول في النسك ولا يلبي بذلك، إلا إذا حاذى الميقات أو دنا منه، ومن توجه إلى مكة ولم يرد حجا ولا عمرة، كالتاجر والحطاب والبريد ونحو ذلك، فليس عليه إحرام إلا أن يرغب في ذلك؛ لمفهوم الحديث المتقدم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة.


ومن كان مسكنه دون المواقيت كسكان جُدة وأم السلم وبحرة والشرائع وبدر وأشباهها، فإنه يحرم بالحج والعمرة من مسكنه، لقوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر المواقيت: (ومن كان دون ذلك فمُهَله من أهله، حتى أهل مكة يهلون من مكة) متفق عليه، لكن من أراد العمرة وهو في الحرم فعليه أن يخرج إلى الحِلِّ ويحرم بالعمرة منه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلبت منه عائشة رضي الله عنها العمرة أمر أخاها عبدالرحمن أن يخرج بها إلى الحل فتحرم منه، فدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (حتى أهل مكة يهلون من مكة) هو الإهلال بالحج لا العمرة.


وأما ما يفعله بعض الناس من الإكثار من العمرة بعد الحج من التنعيم أو الجِعرانة أو غيرهما، وقد سبق أن اعتمر قبل الحج فلا دليل على شرعيته، بل الأدلة تدل على أن الأفضل تركه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يعتمروا بعد فراغهم من الحج، وإنما اعتمرت عائشة من التنعيم لكونها لم تعتمر مع الناس حين دخول مكة بسبب الحيض، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتمر بدلا من عمرتها التي أحرمت بها من الميقات، فمن كان مثل عائشة رضي الله عنها فلا بأس أن يعتمر بعد فراغه من الحج، عملا بالأدلة كلها والله الموفق.


ويلبي المحرم بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ويكثر من هذه التلبية ومن ذكر الله حتى يصل إلى البيت، فإذا وصل إلى البيت قطع التلبية قبل أن يشرع في الطواف إن كان متمتعا أو معتمرا.


وإذا وصل الحاج إلى الميقات في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، فإنه مخير بين ثلاثة أمور، وهي الحج وحده، والعمرة وحدها، والجمع بينهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الميقات في ذي القعدة في حجة الوداع، خير أصحابه بين هذه الأنساك الثلاثة، لكن السنة في حق هذا إذا لم يكن معه هدي أن يحرم بالعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما قربوا من مكة أن يجعلوا إحرامهم عمرة، وأكد عليهم في ذلك بمكة، فطافوا وسعوا، وقصروا وحلوا، امتثالا لأمره صلى الله عليه وسلم، إلا من كان معه الهدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبقى على إحرامه حتى يحل يوم النحر، والسنة في حق من ساق الهدي أن يحرم بالحج والعمرة جميعا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وكان قد ساق الهدي، وأمر من ساق الهدي من أصحابه وقد أهل بعمرة أن يلبي بحج مع عمرته، وأن لا يحل حتى يحل منهما جميعا يوم النحر، وإن كان الذي ساق الهدي قد أحرم بالحج وحده بقي على إحرامه أيضا حتى يحل يوم النحر كالقارن بينهما.


وعُلم بهذا : أن من أحرم بالحج وحده أو بالحج والعمرة وليس معه هدي، لا ينبغي أن يبقى على إحرامه، بل السنة في حقه أن يجعل إحرامه عمرة، فيطوف ويسعى ويقصر ويحل، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي من أصحابه بذلك، إلا أن يخشى هذا فوات الحج لكونه قدم متأخرا، فلا بأس أن يبقى على إحرامه.


وإذا خاف المحرم أن لا يتمكن من أداء نسكه لكونه مريضا أو خائفا من عدو ونحوه، استحب له أن يقول عند إحرامه: "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني"، وفائدة هذا الشرط: أن المحرم إذا عرض له ما يمنعه من تمام نسكه من مرض أو صد عدو جاز له التحلل ولا شيء عليه، ويجوز حج الصبي والصغير والجارية الصغيرة، لما في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيا، فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ فقال: (نعم ولك أجر).


ولكن لا يجزؤهما هذا الحج عن حجة الإسلام، لما ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صبي حج ثم بلغ الحِنْث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى) أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي بإسناد حسن.


وإذا كان الصبي دون التمييز نوى عنه الإحرام وليه، فيجرده من المخيط ويلبي عنه، ويصير الصبي محرما بذلك، فيمنع مما يمنع منه المحرم الكبير، وهكذا الجارية التي دون التمييز، ينوي عنها الإحرام وليها ويلبي عنها، وتصير محرمة بذلك، وتمنع مما تمنع منه المحرمة الكبيرة. وينبغي أن يكونا طاهري الثياب والأبدان حال الطواف، لأن الطواف يشبه الصلاة، والطهارة شرط لصحتها.


وإن كان الصبي والجارية مميزين أحرما بإذن وليهما، وفعلا عند الإحرام ما يفعله الكبير من الغسل والطيب ونحوهما.


ووليهما هو المتولي لشؤونهما، القائم بمصالحهما، سواء كان أباهما أو أمهما أو غيرهما، ويفعل الولي عنهما ما عجزا عنه كالرمي ونحوه، ويلزمهما فعل ما سوى ذلك من المناسك، كالوقوف بعرفة والمبيت بمنى والمزدلفة والطواف والسعي، فإن عجزا عن الطواف والسعي طيف بهما وسعي بهما محمولين، والأفضل لحاملهما أن لا يجعل الطواف والسعي مشتَرَكين بينه وبينهما، بل ينوي الطواف والسعي لهما، ويطوف لنفسه طوافا مستقلا، ويسعى لنفسه سعيا مستقلا احتياطا للعبادة، وعملا بالحديث الشريف: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) فإن نوى الحامل الطواف عنه وعن المحمول أجزأه ذلك في أصح القولين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر التي سألته عن حج الصبي أن تطوف له وحده، ولو كان واجبا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤمر الصبي المميز والجارية المميزة بالطهارة من الحدث والنجس قبل الشروع في الطواف كالمحرم الكبير، وليس الإحرام عن الصبي الصغير والجارية الصغيرة بواجب على وليهما بل هو نفل، فإن فعل ذلك فله أجر، وإن ترك ذلك فلا حرج عليه والله أعلم.


يا مريد الحج والعمرة .. اعلم بارك الله فيك، أنه لا يجوز للمحرم بعد نية الإحرام سواء كان ذكرا أو أنثى أن يأخذ من شعره أو أظفاره أو يتطيب، ويحرم على الذكر خاصة أن يلبس مخيطا على هيئته التي فصل وخيط عليها، كالفانيلاة والسروايل والخفين والجوربين، إلا إذا لم يجد إزارا فيجوز له لبس السراويل، وكذا من لم يجد نعلين، جاز له لبس الخفين من غير قطع، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل).


وأما ما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما من الأمر بقطع الخفين إذا احتاج إلى لبسهما لفقد النعلين، فهو منسوخ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في المدينة لما سئل عما يلبس المحرم من الثياب، ثم لما خطب الناس بعرفات أذن في لبس الخفين عند فقد النعلين ولم يأمر بقطعهما، وقد حضر هذه الخطبة من لم يسمع جوابه في المدينة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، فثبت بذلك نسخ الأمر بالقطع، ولو كان واجبا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز للمحرم لبس الخفاف التي ساقها دون الكعبين، لكونها من جنس النعلين، ويجوز له عقد الإزار وربطه بخيط ونحوه لعدم الدليل المقتضي للمنع.


ويجوز للمحرم أن يغتسل ويغسل رأسه ويحكه إذا احتاج إلى ذلك برفق وسهولة، فإن سقط من رأسه شيء بسبب ذلك فلا حرج عليه.


ويحرم على المرأة المحرمة أن تلبس مخيطا لوجهها كالبرقع والنقاب، أو ليديها كالقفازين، وهما ما يخاط أو ينسج من الصوف أو القطن أو غيرهما على قدر اليدين.


ويباح للمحرمة من المخيط ما سوى ذلك، كالقميص والخفين والجوربين ونحو ذلك، وكذلك يباح لها سدل خمارها على وجهها إذا احتاجت إلى ذلك بلا عصابة، وإن مس الخمار وجهها فلا شيء عليها، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه" أخرجه أبو داود وابن ماجه.


وكذلك لا بأس أن تغطي يديها بثوبها أو غيره، بل يجب عليها تغطية وجهها وكفيها إذا كانت بحضرة الرجال الأجانب، لأنها عورة، لقوله تعالى: ((وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ))[النور:31] الآية، ولا ريب أن الوجه والكفين من أعظم الزينة.


وأما ما اعتادته الكثيرات من النساء، من جعل العصابة تحت الخمار لترفعه عن وجهها فلا أصل له في الشرع فيما يعلم، ولو كان ذلك مشروعا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.


ويجوز للمحرم من الرجال والنساء غسل ثيابه التي أحرم فيها من وسخ أو نحوه، بل يجوز له إبدالها بغيرها، ولا يجوز له لبس شيء من الثياب مسه الزعفران أو الورس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.


ويجب على المحرم أن يترك الرفث والفسوق والجدال؛ لقوله تعالى: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ))[البقرة:197]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، والرفث: يطلق على الجماع وعلى الفحش من القول والفعل، والفسوق: المعاصي، والجدال: المخاصمة في الباطل أو فيما لا فائدة فيه.


فأما الجدال بالتي هي أحسن لإظهار الحق ورد الباطل فلا بأس به، بل هو مأمور به لقوله تعالى: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))[النحل:125].


ويحرم على المحرم الذكر تغطية رأسه بلاصق كالطاقية والغترة والعمامة أو نحو ذلك، وهكذا وجهه لقوله صلى الله عليه وسلم في الذي سقط عن راحلته يوم عرفة ومات: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تخمروا رأسه ووجه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) متفق عليه وهذا لفظ مسلم.


وأما استظلاله بسقف السيارة أو الشمسية ونحوهما فلا بأس به، كالاستظلال بالخيمة والشجرة، لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ظُلل عليه بثوب حين رمى جمرة العقبة، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضُربت له قبة بنمرة، فنزل تحتها حتى زالت الشمس يوم عرفة.


ويحرم على المحرم من الرجال والنساء قتل الصيد البري، والمعاونة في ذلك، وتنفيره من مكانه. ويحرم عليه عقد النكاح والجماع وخِطبة النساء ومباشرتهن بشهوة؛ لحديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) رواه مسلم.


وإن لبس المحرم مخيطا أو غطى رأسه أو تطيب ناسيا أو جاهلا فلا فدية عليه، ويزيل ذلك متى ذكر أو علم، وهكذا من حلق رأسه أو أخذ من شعره شيئا، أو قلم أظافره ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه على الصحيح.


ويحرم على المسلم محرما كان أو غير محرم، ذكرا كان أو أنثى، قتل صيد الحرم، والمعاونة في قتله بآلة أو إشارة أو نحو ذلك، بل يحرم أيضا تنفيره من مكانه.


ويحرم قطع شجر الحرم ونباته الأخضرين، ولقطته يحرم التقاطها إلا لمن يُعرفها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا البلد –يعني: مكة- حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد) متفق عليه، والـمُنشد: هو المعرف، والخلا: هو الحشيش الرطب .


واعلم أن منى ومزدلفة من الحرم، وأما عرفة فمن الحل .


ما رأيكم في الموقع ؟